إرجاء الإطلاق والتعيين والعذر بالجهل في الشرك الأكبر

محمد عثمان

رقد زعم مصطفى العدوي وهو مصري من أهل الاختصاص في الحديث حين سئل في اتصال هاتفي عن:

حافظ القرآن هل يعذر بجهله في مسائل الشرك الأكبر؟

فأجاب:

حافظ القرآن يعذر بجهله في مسائل الشرك الأكبر نعم لأنه لا يفهم الآيات.

مصطفى العدوي

وهذا من صور الظن أن القرآن لا يقيم الحجة وأن الإنسان لا يكفر إلا من حيث قصد وهو مذهب إرجائي قديم.

وهذا القول متضمن لاتهام القرآن بالقصور في إقامة الحجة على الخلق وإن كان في ظاهره يعتقد أن أصحاب الملل الأخرى تقوم عليهم الحجة به فقوله هذا مقدمة لعذرهم، وهذا بين الإرجاء المغالي وبين عذر الكافر الأصلي حسب اللازم.

قال تعالى:

﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾1

قال أبو جعفر قدس الله روحه:

“لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل” يقول: أرسلت رسلي إلى عبادي مبشرين ومنذرين، لئلا يحتجّ من كفر بي وعبد الأنداد من دوني، أو ضل عن سبيلي بأن يقول إن أردتُ عقابه: ﴿لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ (طه: 134) فقطع حجة كلّ مبطل ألحدَ في توحيده وخالف أمره، بجميع معاني الحجج القاطعة عذرَه، إعذارًا منه بذلك إليهم، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل”2.

الطبري

وقد وجدت أن إحدى أشد الآيات على من سلك هذا المذهب قوله تعالى:

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾.3

قال أبو جعفر قدس الله روحه:

“يعني بالذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبتغون به ربحا وفضلا فنالوا به عَطَبا وهلاكا ولم يدركوا طلبا، كالمشتري سلعة يرجو بها فضلا وربحا، فخاب رجاؤه. وخسر بيعه، ووكس في الذي رجا فضله.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن يقال: إن الله عزّ وجلّ عنى بقوله (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا) كلّ عامل عملا يحسبه فيه مصيبا، وأنه لله بفعله ذلك مطيع مرض، وهو بفعله ذلك لله مسخط، وعن طريق أهل الإيمان به جائر كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الإجتهاد في ضلالتهم، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة، من أهل أيّ دين كانوا.

يقول: هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلالة، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به بل على كفر منهم به، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا: يقول: وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون، وهذا من أدَل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالا وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم. ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه، كانوا مثابين مأجورين عليها، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة، وأن أعمالهم حابطة”4.

وظاهر الآي مشير إلى هذا الحكم أصلا دون تفسير. وتجد في مذهبه أمثال هؤلاء التفريق بين الإطلاق والتعيين بإطلاق هكذا وجعل الاستثناء عذر فيقال كقاعدة عامة:

وقع في الكفر ولم يقع الكفر عليه.

ولوجود عذر بالجهل باتفاق كاستثناء كمن كان في بادية أو حديث عهد، إنما يلاحظ في أطروحات المعاصرين أن من عاش بين المسلمين الموحدين طيلة حياته الأصل فيه أنه يعذر بجهله، ويقولون: هناك فرق بين الإطلاق والتعيين وهذا أصل عندهم.

وهذا غلط من جهة أن الإطلاق يشمل المعينين فيجب أن يصح القول في غالبهم واقعا ليصح الأطلاق ذهنيا وهذا إن لم يتوفر بطل الإطلاق من أصله وصار تخصيصا.

وإنما غرض الإطلاق هو التجميع وصنع كلية في الذهن تشمل تصنيفا يندرج تحته أفراد وقعت عليهم الصفة فإن كان الأقل منهم لا تقع عليه علة التصنيف بأكملها كان ذلك غير قادح في أن التصنيف تعميمي يقبل الاستثناء وإن كان العكس قدح في التعميم وصارت حالات استثنائية نادرة والنادر لا حكم له.

وفي مسألة الشرك الأكبر هذا معناه أنه لا يكفر أحد إلا أن أقر بنفسه لا أن هناك إطلاق بكفر من وقع فيه. وقد ذكر الإمام المجدد هذه الألاعيب التي تم طرحها تجاهه من مرجئة المنتسبين للعلم فقال:

“ولم يقل أحد من الأولين والآخرين لأبي بكر الصديق وغيره: كيف تقاتل بني حنيفة وهم يقولون لا إله إلا الله ويصلون ويزكون؟.

وكذلك لم يستشكل أحد تكفير قدامة وأصحابه لو لم يتوبوا، وهلم جرا إلى زمن بني عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر والشام وغيرها مع تظاهرهم بالإسلام وصلاة الجمعة والجماعة ونصب القضاة والمفتين لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا لم يستشكل أحد من أهل العلم والدين قتالهم، ولم يتوقفوا فيه وهم في زمن ابن الجوزي والموفق.

وصنف ابن الجوزي كتابا لما أخذت مصر منهم سماه النصر على مصر. ولم يسمع أحد من الأولين والآخرين أن أحدا أنكر شيئا من ذلك أو استشكله لأجل ادعائهم الملة أو لأجل قول لا إله إلا الله أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام، إلا ما سمعناه من هؤلاء الملاعين في هذه الأزمان من إقرارهم أن هذا هو الشرك ولكن من فعله أو حسنه أو كان مع أهله أو ذم التوحيد أو حارب أهله لأجله أو أبغضهم لأجله أنه لا يكفر لأنه يقول لا إله إلا الله، أو لأنه يؤدي أركان الإسلام الخمسة.

ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها الإسلام هذا لم يسمع قط إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين الظالمين فإن ظفروا بحرف واحد عن أهل العلم أو أحد منهم يستدلون به على قولهم الفاحش الأحمق فليذكروه، ولكن الأمر كما قال اليمني في قصيدته:

أقاويل لا تعزى إلى عالم فلا
تساوي فلسا إن رجعت إلى النقد".5

ويمكنك أن ترى من لهجته تجاه أصحاب هذه البدعة سببا قد يكون مؤثرا في وصف العدوي له بأن فيه غلوا، وهذا دليل على اختلاف المنهج.

ثم تأتي مسألة العذر بالتأويل ولتفهم يجب طرح مستندين لهذا الاشتقاق في الحكم:

التأويل القوي الذي يوجب حصول شبهة

وَإِنَّمَا حُكِيَ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ, وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ, وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ, أَنَّهُمْ قَالُوا: هِيَ حَلَالٌ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ الْآيَةَ. فَبَيَّنَ لَهُمْ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ, وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ، وَأَقَامُوا عَلَيْهِمْ الْحَدَّ; لِشُرْبِهِمْ إيَّاهَا, فَرَجَعُوا إلَى ذَلِكَ, فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ, فَمَنْ اسْتَحَلَّهَا الْآنَ فَقَدْ كَذَّبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم; لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ ضَرُورَةً مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ تَحْرِيمُهُ, فَيَكْفُرُ بِذَلِكَ, وَيُسْتَتَابُ, فَإِنْ تَابَ, وَإِلَّا قُتِلَ”.6

فعرفنا أن صاحب التأويل القوي ومن عرضت له شبهة أوجبت اجتهادا خاطئا في محرم لزم إقامة الحجة النبوية عليه قبل إقامة الحد القضائي وإن كان يسمى مستحلا.

وقد حددها ابن قدامة بـ: عرف تحريمها من جهة النص.

قال شيخ الإسلام: “إن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر ولهذا استحل طائفة من الصحابة والتابعين كقدامة بن مظعون وأصحابه شرب الخمر وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحا على ما فهموه من آية المائدة، اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون فإن أصروا على الاستحلال كفروا وإن أقروا به جلدوا فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق فإذا أصروا على الجحود كفروا” .7

فترى أنه علق حكم القتل بإقامة الحجة استدلالا بواقعة أسامة.

التأويل الضعيف الذي لا يشترط فيه قيام الحجة

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:

لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ، قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ، إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ”.8

فهنا قد امتنع بعض العرب عن الزكاة لا جحودا صريحا بل تأولا لقوله تعالى:

﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم﴾9

فكان تفسيرهم: أن صلاة النبي سكن لنا لا صلاة من خلفه.

وكانت الشبهة على الممانعة ضعيفة في هذه الآية فلم يشترط إقامة الحجة قبل القتال وعلى هذا أجمع الصحابة بقبولهم حكم أبي بكر وعلى هذا قول كل متبع.

وبعرض المثالين يسأل الواحد: أين يقع الشرك الأكبر من هذا؟ فإن كان هناك آية توهم شبهة جواز دعاء غير الله فليأت بهذا أصحاب هذا المذهب لنعذر من يدعو غير الله ويسجد للقبر وهو غير حديث عهد ولا ساكن بادية مع حفظه للقرآن!.

فإذا كان هذا فيعلم أنه لا وجه لقياس المشرك شركا أكبر بمسألة أسامة بن مظعون رضي الله عنه.

فيبقى الثاني وهو الحق.

وحاصل الأمر إذا أراد أصحاب هذا المنهج الاستدلال على ما يخرج أصحاب الشرك الأكبر من هذا الحكم جاء يحتج بكلام أهل العلم في ناس واقعين في ما هو أخف من ذلك فيذكر إنكار بعض المحدثين لصفات دون ذكر كونها لداعي إسنادي أو يأخذ قصة أسامة بن مظعون كأصل مهملا حكم التأويل الضعيف.

“ثم يجيء من يموه على الناس ويفتنهم عن التوحيد، بذكر عبارات لأهل العلم يزيد فيها وينقص وحاصلها الكذب عليهم لأنها في أناس لهم إسلام ودين وفيهم مقالات كفرهم بها طائفة من أهل العلم وتوقف بعضهم في تكفيرهم حتى تقوم عليهم الحجة ولم يذكرهم بعض العلماء في جنس المشركين إنما في جنس الفساق.”10

أو يدعي عدم الإجماع على كفر الطوائف ذات البدع المغلظة كادعاء العدوي عدم كفر الجهمية مستدلا بعدم الإجماع على فرقة المعتزلة أو الأشاعرة وكذلك في مسألة الإجماع على كفر القائل بخلق القرآن.

قال الإمام عبدالرحمن بن أبي حاتم ناقلا إجماع 3000 من السلف:

“وأن الجهمية كفار، وأن الرافضة رفضوا الإسلام، وأن الخوارج مراق. ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفرا ينقل عن الملة ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر”.11

عقيدة الر ازيين

قال شيخ الإسلام: “وكذلك قوله تعالى:

﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾12 فإنهما متلازمان؛ فكل من شَاقَّ الرسول من بعد ما تبين له الهدى، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، وكل من اتبع غير سبيل المؤمنين فقد شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، فإن كان يظن أنه متبع سبيل المؤمنين وهو مخطئ، فهو بمنزلة من ظن أنه متبع للرسول وهو مخطئ.

وهذه الآية تدل على أن إجماع المؤمنين حجة؛ من جهة أن مخالفتهم مستلزمة لمخالفة الرسول، وأن كل ما أجمعوا عليه فلابد أن يكون فيه نص عن الرسول، فكل مسألة يقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين، فإنها مما بين الله فيه الهدى، ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر، كما يكفر مخالف النص البين. وأما إذا كان يظن الإجماع ولا يقطع به، فهنا قد لا يقطع _ أيضًا _ بأنها مما تبين فيه الهدى من جهة الرسول، ومخالف مثل هذا الإجماع قد لا يكفر، بل قد يكون ظن الإجماع خطأ، والصواب في خلاف هذا القول، وهذا هو فصل الخطاب فيما يكفر به من مخالفة الإجماع وما لا يكفر”.13

فمن هذا يتبين أن ما ينقله عبدالرحمن بن أبي حاتم رحمه الله قطعي يكفر مخالفه ممن يفهم إذا علم حصول الإجماع.

أما عن المعتزلة فينقل ابن القيم الإجماع في ذلك في قوله عن الأشاعرة:

“فتأمل هذه الأخوة التي بين هؤلاء وبين المعتزلة الذين اتفق السلف على تكفيرهم وأنهم زادوا على المعتزلة في التعطيل”.

ابن القيم14

فإما أن يكون هذا الرجل جاهلا بهذا أو مخفيا له.

وقد ادعى من سلك هذا المسلك أن الإجماعات هذه ذكرت البدعة ولم تذكر العين وهذا استخفاف بالعقول.
قال أبو الوليد:

“من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر، ومن لم يعقد قلبه على أن القرآن ليس بمخلوق فهو خارج من الإسلام”.

خلق أفعال العباد15

من يخرج هو أم قوله؟

وانظر كيف جعل الطبري القائل بهذا لا يسعه الجهل ولا يعذره إذ أن هذا ليس كلام العوام:

“قد دللنا فيما مضى قبل من كتابنا هذا أنه لا يسع أحداً بلغ حد التكليف الجهل بأن الله –جل ذكره- عالمٌ له علمٌ، وقادرٌ له قدرة، ومتكلمٌ له كلامٌ، وعزيزٌ له عزةٌ، وأنه خالقٌ. وأنه لا محدثٌ إلا مصنوعٌ مخلوقٌ. وقلنا: من جهل ذلك فهو بالله كافرٌ؛ فإذا كان ذلك صحيحاً بالذي به استشهدنا، فلا شك أن من زعم أن الله محدثٌ، وأنه قد كان لا عالماً، وأن كلامه مخلوقٌ، وأنه قد كان ولا كلام له، فإنه أولى بالكفر وبزوال اسم الإيمان عنه”.

الطبري16

وثم أكد البخاري على أحكام الأعيان:

“ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي، أم صليت خلف اليهود والنصارى ولا يسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم”.

البخاري17

يقول الإمام المجدد:

لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين.

محمد بن عبدالوهاب18

فتأمل كيف أن الألفاظ التي نقلت فيها الإجماعات تقع على العين وفيها تأكيد هذا لكي لا يبقى شك في ما أراد السلف بتقريرهم رضوان الله عليهم.

التفريق بين قيام الحجة ووصولها

من ينتهج هذا النهج لا يعتبر هذا التفريق عمليا فقيام الحجة عندهم شرط حتى في إطلاق لفظ الكفر.
قال محمد بن كعب في قوله تعالى: {وَمَنْ بَلَغَ} قال:

“من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – وكلمه”.

محمد بن كعب القرظي19
وهذا البلوغ ﴿وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾20

قال أبو جعفر قدس الله روحه:

“يقولُ تعالى ذِكْرُه: وما كُنَّا مُهلِكي قومٍ إلَّا بعد الإعذارِ إليهم بالرُّسُلِ، وإقامةِ الحُجَّةِ عليهم بالآياتِ التي تَقطَعُ عُذْرَهم.
وقال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا): إن الله تبارك وتعالى ليس يعذب أحدا حتى يسبق إليه من الله خبرا، أو يأتيه من الله بيِّنة، وليس معذّبا أحدا إلا بذنبه”.21

الطبري

قال الإمام المجدد:

“وبعد، ما ذكرتم من قول الشيخ: كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة، فهذا من العجب؛ كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مراراً؟

فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفّر حتى يعرَّف; وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هو القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة. ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة؛ فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى:

﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾.22

وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها”23.

وقال:

“من المعلوم أن قيام الحجة ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن، مع قول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ﴾ (الإسراء:46) وقوله: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (الأنفال:22)”.

محمد بن عبدالوهاب24

ومما نقل عن الإمام المجدد في ما يعارض ظاهره هذا قوله:

“وإذا كنا لا نكفِّر مَن عبدَ الصنمَ الذي على قبر عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما؛ لأجل جهلِهم وعدمِ مَن يُنبِّههم، فكيف نكفِّر مَن لم يُشْرك بالله إذا لم يُهاجر إلينا، ولم يُكفَّر ويُقاتَل؟! سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ!”.

محمد بن عبدالوهاب25

وقد نقل عن ابن تيمية ما يفيد هذا والجواب كما سطره عبدالرحمن بن حسن رحمه الله:

“بقيت مسألة حدثت, تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية, وهو: عدم تكفير, المعين ابتداء, لسبب ذكره رحمه الله تعالى, أوجب له التوقف في تكفيره, قبل إقامة الحجة عليه, قال رحمه الله تعالى: ونحن نعلم بالضرورة, أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأحد, أن يدعو أحداً من الأموات, لا الأنبياء, ولا الصالحين, ولا غيرهم؛ ولا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها, كما أنه لم يشرع لأمته: السجود لميت, ولا إلي ميت, ونحو ذلك؛ بل نعلم: أنه نهى عن هذه الأمور كلها, وأن ذلك من الشرك, الذي حرمه الله, ورسوله صلى الله عليه وسلم ولكن: لغلبة الجهل ,وقلة العلم بآثار الرسالة, في كثير من المتأخرين, لم يمكن تكفيرهم بذلك, حتى يبين ما جاء به الرسول، مما يخالفه” انتهى.

قلت: فذكر رحمه الله تعالى, ما أوجب له عدم إطلاق الكفر عليهم، على التعيين خاصة، إلا بعد البيان والإصرار؛ فإنه قد صار أمة وحده؛ لأن من العلماء من كفره, بنهيه لهم عن الشرك في العبادة، فلا يمكن أن يعاملهم بمثل ما قال؛ كما جرى لشيخنا: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في ابتداء دعوته، فإنه إذا سمعهم يدعون زيداً بن الخطاب: قال: الله خير من زيد، تمرينا لهم على نفي الشرك، بلين الكلام, نظراً إلى المصلحة، وعدم النفرة، والله سبحانه أعلم؛ وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم”.26

يعني أنهم استخدموا المعاريض، بمعنى لا نكفركم قبل الرسالة.

وهذا ما قاله ابن تيمية: “إنَّ الأمكِنةَ والأزمِنةَ التي تَفتُرُ فيها النُّبوَّةُ، لا يكونُ حُكمُ مَن خَفِيَت عليه آثارُ النبُوَّةِ حتى أنكر ما جاءت به خطأً: كما يكونُ حُكمُه في الأمكِنةِ والأزمِنةِ التي ظهَرَت فيها آثارُ النبوَّة”.

ابن تيمية27

فتأمل كيف أن الحالات التي عذروا بها كانت خاصة واستثنائية وكيف أن ظاهرها مخالف لمن يحفظ القرآن فهو لا يكون في هذا الموضع ولا من يقرأه.

كما يجدر الإشارة لشدة اعتماد الطبري وابن تيمية وابن عبدالوهاب رحمهم الله على القرآن في اشتقاق هذه الأحكام مما يثبت إيمان راسخ في حجيته وفعاليته مما يفتقده الكثير ممن يتشدق باتباعهم.

هذا والله أعلم.


مصادر

  1. (النساء:165). ↩︎
  2. جامع البيان في تأويل آي القرآن، أبو جعفر ابن جرير الطبري، تحقيق محمود محمد شاكر، دار التراث، جزء 9، صفحة 408 ↩︎
  3. (الكهف: 103-104) ↩︎
  4. المصدر السابق، جزء 19، صفحة 125-128 ↩︎
  5. مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد(مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب)، محمد بن عبدالوهاب، تحقيق محمد بن إسماعيل الأنصاري، جامعة الإمام محمد بن سعود، صفحة 311 ↩︎
  6. المغني، عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، تحقيق عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار عالم الكتب، 1417ه، جزء 11، صفحة 499. ↩︎
  7. الاستغاثة في الرد على البكري، أحمد عبدالحليم بن تيمية، تحقيق عبدالله بن دجين السهلي، دار المنهاج، 1426ه، صفحة 252 ↩︎
  8. صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، رقم: 6893 ↩︎
  9. (التوبة:103). ↩︎
  10. الأدلة والبراهين على عدم العذر بالجهل في أصول الدين، عبدالرحمن بن حسن، رسالة مستلة من الدرر السنية، صفحة 17 ↩︎
  11. أصل السنة واعتقاد الدين للرازيين أبي حاتم وأبي زرعة ↩︎
  12. [النساء: 115] ↩︎
  13. الإيمان، أحمد عبدالحليم بن تيمية، تحقيق الالباني، المكتب الاسلامي، 1416ه، صفحة 35 ↩︎
  14. مختصر الصواعق، ابن قيم الجوزية، 4/1382 ↩︎
  15. خلق أفعال العباد، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق عبدالرحمن عميرة، دار المعارف، صفحة 30-33 ↩︎
  16. التبصير في معالم الدين، أبو جعفر الطبري، تحقيق علي بن عبد العزيز الشبل، دار العاصمة، الطبعة الأولى، 1416ه، ص149) ↩︎
  17. خلق أفعال العباد، محمد بن اسماعيل البخاري، تحقيق عبدالرحمن عميرة، دار المعارف، صفحة 33 ↩︎
  18. مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد (مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب)، محمد بن عبدالوهاب، تحقيق محمد بن إسماعيل الأنصاري، جامعة الإمام محمد بن سعود، صفحة 286 ↩︎
  19. تفسير ابن أبي حاتم (رقم ٧١٦٥)، وابن جرير (رقم ١٣١٢٠). ↩︎
  20. (الإسراء:15) ↩︎
  21. جامع البيان في تأويل آي القرآن، أبو جعفر ابن جرير الطبري، تحقيق محمود محمد شاكر، دار التراث، جزء 17، صفحة 402
    ↩︎
  22. سورة الفرقان – 44 ↩︎
  23. الرسائل الشخصية، محمد بن عبدالوهاب، تحقيق صالح الفوزان ومحمد بن صالح العقيلي، جماعة الإمام محمد بن سعود، صفحة 244 ↩︎
  24. الدرر السنية في الأجوبة النجدية، عبدالرحمن بن محمد بن قاسم، جزء 8، صفحة 213 ↩︎
  25. فتاوى ومسائل، ج2 ص6، من مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ↩︎
  26. الدرر السنية في الأجوبة النجدية، عبدالرحمن بن محمد بن قاسم، جزء 2، صفحة 210 ↩︎
  27. بغية المرتاد في الرد على القرامطة والباطنية وأهل الإلحاد القائلين بالحلول والاتحاد، أحمد عبدالحليم بن تيمية، تحقيق موسى الدويش، مكتبة العلوم والحكم، 1415ه، صفحة 311 ↩︎

مقالات مشابهة