الانسان بين فلسفة اليونان وفطرة الاسلام

محسن بوعكاز

شكلت الفلسفة اليونانية مجموعة من المعاني والمفاهيم المستمدة من لغة القوم – الإغريق- . هذه المفاهيم هي التي تفلسفوا بها وقاموا ببناء الانساق والتصورات عليها، ومن جاء بعدهم وأخذ من إرثهم لم يستطع أن يتجاوز هذه المفاهيم الأولية، فحتى لو خالفوهم الا انهم تفلسفوا معهم بنفس المفاهيم، وعليها تأسست ولازالت تتأسس فلسفات الى الآن.
ولقد واجه الفلاسفة العرب والمتحدثين بالعربية هذه العقبة، اذ كانوا معنيين بنقل معاني عند القوم لا تتحملها اللغة العربية ولا يوجد لها لفظ يعبر عنها، وهكذا أفسد “تراجمة الفلسفة” اللغة العربية بإدخالهم اصطلاحات وتراكيب جديدة واستعمال للألفاظ في غير ما تستعمل فيه على عادة العرب في الكلام، فأتوا بالكلام الركيك والفكر البليد.

ومثل هذا يقال في كلمة “logos-λόγος” اليونانية وهي من الأصل ‘log” الذي يظهر في الفعل “legw” بمعنى “يضع – يختار او يميز- يقول او يتكلم”

أما كلمة لوغوس فتضم عدة معاني في آن وهي : الكلمة (اللغة)، الوجود، العقل ( النظام)، الإله. مما عسر على تراجمة العرب نقل هذا المعنى المتشعب الدلالة الى بنية اللغة العربية.

وهذا التداخل في المعاني في اللغة اليونانية سينتج لنا مجموعة من التصورات الفلسفية تخلط ما في الاذهان بما في الاعيان، او تجعل اللغة بيت الوجود. والتي هي بدورها وعاء العقل، الذي هو بدوره جوهر الوجود وسببه والإنسان يملك عقلًا، والعقل وظيفته الكشف عن عالم المعقولات التي تظهر على ألسنتنا على هيئة اللغة، ثم يكتمل النسق في ما قاله بارمينيدس وهو أن الوجود ما يمكن أن يقال، فيصبح الوجود ليس انعكاسًا لما في الخارج “الحس” إنما لما في الداخل “يقال – يفكر به = معاني وكليات” والعقل وظيفته ان يكشف عالم المعقولات هذا كاداة تمثل نافذة على العقل الكلي أو عالم المعقولات “المثل” الذي تتمثل فيه كل المعاني بالتالي كل الوجود.

الانسان: حي عاقل

لقد إرتبط مفهوم اللوغوس بالإنسان بوجه من الوجوه في الثقافة اليونانية، يقول نيتشه « لقد كان الانسان في نظرهم -الإغريق القدامى- هو حقيقة الاشياء وجوهرها، وماعداه فهو مجرد مظهر ولعبة خداعة »1

ويعتبر هيراقليطس أول من جعل هذا المفهوم ركيزة لفلسفته، حيث جعله مبدأ كليًا يدبر العالم المادي، اي العقل الكلي λόγος الذي يصنع التغير في العالم، فهو بهذا جعل « الاشياء حولنا هي بين معقول ومحسوس». ويقول في إحدى شذراته2 « العقل هو الذي يختص بالفصل في أمر الحق، لكن ليس أي نوع من العقل، إنما “العقل المشترك والإلهي-logos ” ».

فهو اذن يرى ان جوهر العقل الانساني من حقيقة الجوهر الالهي فالانسان يعرف الحقيقه بان يتحد بها اتحادا ً كليا.
فأكد أن في الإنسان طبيعة عقلية إلهية هي خاصية جوهرية فيه وهي التي تدمجه في الوجود، في حين الحس لا ينقل لنا الا الوهم.

وجاء برامينديس من بعده ليرد القول بالصيرورة والتغير التي يصنعها العقل الإلهي في العالم، لكن تفلسف داخل نفس البنية المفاهيمية التي وضعها هيراقليطس، فجعل الوجود المحسوس مجرد وهم -وليس فقط ما تنقله الحواس-، وجعل الوجود الحقيقي معقولا ثابتا لا يتحرك، وقال بوحدة الوجود « كل شيء واحد»3« ما يلفظ به ويفكر فيه يجب ان يكون موجودا »4

أفلاطون لن يبتعد كثيرًا عن هذه المعاني فلقد كانت فكرة برامينديس، ان ما نفكر فيه ونقوله يجب ان يوجد؛ هي القاعدة التي بنى عليها افلاطون تصوره لعالم المثل -عالم اللكليات والمعقولات الثابت الذي لا يدرك بالحس بل بالعقل فقط، والكليات هي ما نقوله، والمعقولات ما نفكر فيه، فجعلها شيء واحد موجودا في الخارج-

والأمر الجوهري في فلسفة أفلاطون هو الوضع الأنطولوجي للنفس العاقلة الإنسانية، فقد حدث أن كانت النفس تعيش في عالم المعقولات الخالدة، لكنها سقطت في المادة وسجنت في الجسد، فحجبت كثافة المادة ذاكرتها.

لكن في مستطاع العقل شق حجب الجسد وتمكين النفس من تذكر اصلها، او نمط وجودها الذي يلائمها هو الارتقاء في التفكير والمعرفة الى عالم المعقولات الإلهية، للخروج من وضعية السقوط، وهكذا يكون حد الفلسفة عنده هو

« التشبه بالإله على قدر الطاقة » 5

أفلوطين

فهذه البنية المفاهيمية -السابقة في الذهنية اليونانية- هي التي ستدبج لنا ذلك التعريف الشهير للإنسان الذي قاله أرسطو في -كتابه الأخلاق الى نيقاماخوس- ” حيوان ناطق- λόγον ἔχον”. فهو جعل جوهر “الوجود” الإنساني هو ” العقل- النطق- ” logic, logos, λόγος, λόγον -ونلاحظ تشابك الكلمات، وارتباط المنطق بلغة القوم، فهو ليس قانون عام للفكر كما زعم أرسطو وأتباعه، وإنما هي لغتهم، لهذا لما ترجم المنطق للعربية أول من تصدى له هم أهل النحو لإفساده للسان العربي. – هذا التعريف سيكون له تأثير كبير في التصورات الفلسفية، فهم أولا جعلوا في الوجود ( العالم، الطبيعة، ما يقال) عقلا ( قانون، نظام، عقل فعال، اله).

ثم الانسان بما أنه عاقل وهي خاصية جوهرية فيه، فهو على هذا الاساس قادر على “تعقل وتمثل” الوجود وذلك بأن يصل إلى ” العقل الفعال- الإله” … او بتعبيرات أخرى هو جزء من هذا العقل الفعال وما عليه سوى أن يسعى للارتقاء الى هذه المكانة الرفيعة.

من هنا كانت الفلسفة عندهم هي ” التشبه بالإله على قدر الطاقة”. ان الفلسفة هي محاولة الوصول الى العقل المشترك الإلهي، « فالفيلسوف – بتعبير نيتشه- يسعى لأن يتردد فيه صدى انسجام العالم كله ولاخراجه على شكل مفاهيم»6
وهذا يعني ان عبر التفلسف الإنسان يسعى الى تحقيق إنسانيته الكاملة، فيكون هو حقيقة الاشياء وجوهرها.

من: ”عاقل“… إلى ”ولي“.

يبدأ الامر من عند تلميذ اول من اتشغل بالفلسفة اليونانية من العرب- جابر بن حيان- وتلميذه هو ذو النون المصري اول واضع لتعريفات التصوف… اول من عرف التوحيد بمعناه الصوفي وكذا وضع تعريفات للوجد والحب المطلق والسماع والمقامات والاحوال…. « وتظهر في آراءه تأثرات افلاطونية محدثة وثيوصوفية»7

ينقل عنه القشيري أنه قال: « معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى يحتملك ويحلم عنك، تخلقا بأخلاق الله »8 وهنا تظهر لنا مقالة التشبه بالإله، ومن الواضح ان المقالة أخذها عن استاذه جابر بن حيان، وهذا الأخير من كتب فلسفة اليونان، وقد عمل على تقريب اصطلاحات الفلاسفة ضمن رسالته في الحدود.

يقول جابر بن حيان «حد العلم العقلي : انه علم ما غاب عن الحواس وتحلى به العقل الجزئي من احوال العلة الاولى، وأحوال نفسه وأحوال العقل الكلي، والنفس الكلية والجزئية، فيما يتعجل به الفضيلة في عالم الكون ويتوصل به الى عالم البقاء »9

فيرى انه يمكن للعقل ان يتصف بصفات العلة الأولى « الاله» وان الفضيلة ستوصله الى عالم البقاء، وهذا ما قاله هيراقليطس وافلاطون وغيرهم. وتلميذه ذو النون المصري يرى ان العارف-الولي الصوفي مثل الله، وأنه متخلق بأخلاق الله، ومرد الأمر كله الى افلاطون بأن الحكمة او الفلسفة هي التشبه بالإله!

إنقلب العاقل في النسق اليوناني الى العارف- الولي في النسق الصوفي، والمعنى المقصود واحد. وقد اتهم ذي نون بالزندقة لأنه احدث علما في الدين لم يكن في عهد الصحابة. ويظهر التأثير في ابعد الفرق عن السنة، كالاسماعلية، فنجد اخوان الصفا يقولون «واعلم يا أخي بأن الحذق في كل صنعة هو التشبه بالصانع الحكيم… ومن أجل هذا قيل في حد الفلسفة أنها التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان»10 فالذي يريد ان يصبح نجارًا يتشبه بالصانع النجار، اذن المتشبه بالاله ماذا يريد ان يصبح ؟

ونجد أيضا الكندي وافق قول افلاطون في النفس قائلا: « النفس على رأي أفلاطون وجل الفلاسفة باقية بعد الموت وجوهرها كجوهر الباري عز وجل في قوتها إذا تجردت» ثم قال «ولعمري لقد وصف أفلاطون وأوجز وجمع في هذا الاختصار معاني كثيرة» فإن النفس عند الكندي جوهر «بسيط ذات شرف وكمال، عظيمة الشأن جوهرها كجوهر الباري، مقياس الشمس من الضياء»11 ونفس الأمر عند الفرابي وابن سينا وغيرهم.

الروح التي اعتبرها الكندي الأفلاطوني جوهرا كجوهر الباري حسب تصوره؛ معقولة وغاية في التجريد، كانت تعبد في اليونان عند مفارقة الجسد، مثل قول أفلوطين « كثيرًا من الأنفس التي كانت في هذه الأبدان وخرجت منها ومضت إلى عالمها: لا تزال مُغِيثَةً لمن استَغاثَ بها، والدليل على ذلك: الهياكل التي بُنِيَت وسُمِّيَت بأسمائها، فإذا أتاها المُضطَرُّ أغاثُوهُ ولم يُرجِعُوه خائبًا» 12

وبدرجة أقل سيتأثر من يحسبون نفسهم على مذهب السنة والسلف، فنجد القشيري احد شيوخ الصوفية في عصره [200 سنة بعد ترجمة مقالات افلوطين] يقول الصوفية: « جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه… صفاهم من كدورات البشرية، ورقاهم الى حال المشاهدات مما تجلى لهم من حقائق الاحدية، ووفقهم للقيام بآداب العبودية، واشهدهم مجاري احكام الربوبية. »13

وتجد الصوفية في عصره ممن قالوا بالحلول اذ هو نتيجة منطقية للإتساق مع مقالة التشبه بالإله المعقول، والاتصال به. فكانت النتيجة ان « رفضوا التمييز بين الحلال والحرام، دانوا بترك الاحترام،وطرح الاحتشام،واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات وركنوا الى اتباع الشهوات….وادعوا أنهم تحرروا عن رق الاغلال، وتحققوا بحقائق الوصال وأنهم قائمون بالحق، تجري عليهم أحكامه….»14

وعلة ذلك ان التشبه بالاله والاتصال به، اي تحقيق وحدة الوجود، سينفي ذلك ثنائية الرب والعبد، فلا يبقى آمر ولامأمور، فتسقط الشريعة امام الحقيقة الصوفية، ويصبح الولي ( الانسان العاقل/الكامل) هو المشرع ( الرازق والواهب وغيرها من صفات الألوهية) فتنبى الأضرحة لأجل ذلك.

أما بن عربي فقد «أتم التفكير الخاص بالانسان الاول مما كان في اصله ايرانيا غنوصيا، ثم عدل عن طريق ميتافيزيقا العقل والكلمة ( اللوغوس) اليونانية، وربط بينها وبين نظرية الولي» 15

يقول بن عربي : «أعطتنا الحقائق ان الانسان الكامل لا يبقى له في الحضرة الإلهية اسم [من اسماء الله] الا هو حامل له»16 فيتحقق مقصود الفيلسوف ” التشبه بالاله ” العقل الإلهي” على قدر الطاقة” ويقول القونوي – تلميذ بن عربي- واصفا الانسان الكامل « هو الحق، وهو الذات، وهو الصفات، وهو العرش، وهو الكرسي، وهو اللوح… وهو الوجود وما حواه ….»17 اي هو حقيقة الاشياء وجوهرها ( λόγος). ويقول الصوفي بن قضيب البان : « أوقفني الحق على بساط القطبية، وقال لي: الانسان الكامل قطب الشأن الإلهي؛ وغوث الان الزماني، اول ما أسلِم له: التصريف في قطر نفسه حتى يبلغ الاشد، ثم أسلم له ما وافقه من اقطار الأقاليم. ثم أسلم له الارض، ثم يسلم له الملك، ثم يجمع له الملكوالملكوت. وهذا هو النائب الرحماني. …. الكون كله صورة القطب » .18

الانسان الكامل = صورة الكون والنائب عن الرحمن في التشريع والحكم.

فالاتحادية المتصوفة، سلموا بالبنية المفاهيمية اليونانية بأن « ما يلفظ به ويفكر فيه يجب ان يكون موجودا» كما عند ابن العربي في الفصوص ومن تابعه من المتصوفة مثل ابن سبعين والقينوي وامثالهم، اذ يقولون ان الوجود واحد، «الاله المطلق لا يسعه شيء فهو عين الاشياء وعين نفسه».19 و يقولون: «الحقائق تتبع العقائد»20 اي ان ما تفكر فيه وتعتقده هو الحقيقي الموجود «فجعلوا الحقائق الثابتة تتبع الكشف والاعتقاد والقول»21 فخلطوا ما في الاذهان بما في الاعيان مقتدين في ذلك بفلاسفة اليونان.

وعلى أي حال، فإنطلاقا من هذه الأرضية سيتشكل لنا مفهوم جديد للولي الصالح، مخالف لمفهومه في القرآن والسنة الذي يعني المؤمن التقي ولا شيء غير هذا. أما المفهوم الجديد للولي فهو الانسان الكامل المتشبه بالإله. فهكذا تتحقق إنسانية الإنسان الكاملة، بالاندماج مع العقل الإلهي والتوحد معه، حتى يصبح الانسان العاقل هو المشرع الفاعل في الوجود، فتبنى له الأضرحة ويستغاث به.

من: ”عاقل“… إلى ”إله“

أما في عصر الحداثة نجد أن ديكارت حاول أن يبرهن على وجوده، وهذا هو الهذيان والله المستعان، فبرهن على ذلك بالعقل؛ في قولته الشهيرة «انا افكر اذن انا موجود» 22

لماذا قال هذا ؟

لأن ال” logos ” اليوناني فيه هذه الثنائية ملتصقة تتضمن بعضها بعضا، فهذه البنية المفاهيمية الفوقية كان لها سطو على عقول الفلاسفة وطريقة تفكيرهم حتى ولو لم يستخدموا نفس المصطلحات الا انهم يطوفون حول نفس المعاني. فهو عاد مرة أخرى ليثبت تعريف أرسطو بشكل اخر، ان مقوم الوجود الانساني هو العقل/الفكر. وسيشك في وجود الجسد والمادة؛ « إن الأكثر يقينًا هو شكنا في وجود أي جسم، في حين أننا ندرك بالفعل أننا نفكر.»23

ولما كانت المادة/ الجسد مشكوك فيه، سيقول ديكارت أن العقل ” اعدل قسمة بين الناس”.24 هنا ستبدأ تظهر ملامح المساواة والإنسانوية… لكن الأمر لازال يحتاج الى دفعة أخرى. يحتاج دفعة من كانط.

إيمانيول كانط منطلقًا من نفس الذهنية اليونانية، سيحاول هذه المرة تأسيس استقلالية الإنسان عن الإله. هذه المرة، وبوقاحة كبيرة، كانط سيقلب الموضوع، سيقول للسابقين ليس الإله هو المركز الذي نسعى للوصول إليه. وانما الانسان هو المركز، لأنه كائن عاقل له إرادة، وهو الذي يصنع العالم في تمثله، لأنه إلهي من جهة المعقولية -في ذاته-، فهو الذي يصنع الوجود ولا يسعى لتعقله او التوحد معه، ومن هنا ستظهر أهم خاصية للفكر الحداثي، وهي إخضاع العالم للذات.
وهكذا سيؤسس كانط الأخلاق على العقل، اي يفصلها عن الدين والإله.

ولما كان العقل هو الخاصية الجوهرية والمشتركة عند الانسان؛ سيحول كانط الأمر المطلق (الواجب) الى قانون عالمي للإنسانية : «افعل على نحو تعامل معه الإنسانية في شخصك كما في شخص غيرك، كغاية دائما وفي نفس الوقت، لا كمجرد وسيلة البتة. »25

وهكذا أسس كانط للإنسانية المشتركة وللعالمانية، بحيث تصبح إرادة الإنسانية العاقلة هي المشرعة للقوانين الأخلاقية.

« ينبغي للكائن العاقل ان يعتبر نفسه على الدوام كمشرع. »26

عمانوئيل كانط

الان لن نبني اضرحة للأولياء، بل سنبني الدولة الحديثة. هذه النظرية الأخلاقية هي الأساس الفلسفي للقانون الدولي الحديث, حيث أصبح الانسان «غير مطيع الا للقوانين التي يقيمها بذاته»27

لكن هذه الإرادة الأنسانوية تحتاج الى خاصية جوهرية لا بد من توفرها في الذات الانسان حتى لا تتصادم مع قانون الطبيعة الحتمي الظاهر، هذه الخاصية؛ هي الحرية التي أسس لها كانط في نقد العقل المحض28 بفصله بين العالم الظاهر الذي يجري فيه القانون الطبيعي الحتمي، وبين العالم المعقول الذي لا يخضع للقانون الطبيعي، فالانسان في ذاته جزء من العالم المعقول وهو حر من هذا الجزء، وهذه الحرية تجعله يفعل في العالم المحسوس بإرادة غير خاضعة للقانون الطبيعي ( حتى لو كانت متوافقة معه في الظاهر).

يقول كانط « الانسان من حيث هو عاقل يشكل جزءا من العالم المعقول فليس في مستطاعه ان يتصور علية ارادته الخاصة الا في ظل فكرة الحرية، ذلك لأن الإستقلال عن العلل المحددة للعالم المحسوس هو الحرية.»29

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، لقد فتح كانط أبواب الشر على العالم بنتائج فلسفته؛ الانسان هو المشرع، فكره وعقله هو الذي يحكم على الواقع المادي ويصنعه ويخضعه له.

وقد جاء فيشته من بعد كانط «وقضى على وجود الاشياء في ذاتها، وقال إن الوجود هو من وضع الأنا»30 لقد كان الصوفية يحاولون التخلص من الجسد ليكن الروح والعقل حرًا طليقًا، لكن في الحداثة يريدون إعادة تشكيل الجسد بما يوافق أفكارهم وعقولهم الفاسدة. فمنذ كانط بدأت تأخذ هذه الافكار محمل الجد، حيث سنرصد « تأليها للإنسان بطيئًا ومحتوما»31 ، يصل إلى الذروة مع نيتشه في مفهوم إرادة القوة، الذي تنبأ بالإنسان المستقبلي « محرر الإرادة الذي سيعيد للعالم غايته وللانسان أمله، هذا المسيح الدجال الذي يقف ضد العدمية، هازم الرب والعدم. »32

هذا التنظير الفلسفي سيكون أساس متين لمجموعة من إديولوجيات ما بعد الحداثة « عصر الانسان_ الإله» بتعبير لوك فيري33، ونخص بالذكر أحط هذه الاديواوجيات وهي اللواطية، فقد إنطلقت من الاساس الفلسفي الكانطي -العقل هو المشرع للأخلاق والإرادة هي التي تصنع الظاهر المحسوس- فقالوا أن جسدنا وجنسنا البيولوجي الواقعي تابع لذهننا وفكرنا وما نتصوره حول النوع أو ”الجنوسة gender“

ولسان حالهم : أنا المشرع لجسدي، انا الانسان العاقل دائما على حق، فاذا قلت انا إمرأة فلا تعترض بأنا جسدي جسد رجل، فالواقع المادي يخضع للذات وليس العكس. ونفسه الأمر ينطبق على غيرها من زبالات أفكار ما بعد الحداثة.


لم يعد الانسان الحديث يشرك بالله، بل جعل نفسه هو الإله. وهذه هي ميتافيزيقا ما بعد الحداثة، وكل ما أفرزته من إديولوجيات -كالنسوية، والانسانوية، واللواطية، والغلمانية …- لها مسوغ فلسفي ضارب في القدم.

وهكذا سقط الانسان الحديث في العدمية، وما يسمى بالإغتراب، اذ يجد نفسه غريبا في هذا الوجود بدون غاية، فكره منفصل عن جسده، لا شيء يجري وفق هواه، وهو يحسب نفسه إلهًا!

هذه الطوام كلها جرها علينا فلاسفة اليونان، وكبيرهم أرسطو الذي عرف الإنسان بأنه “حيوان عاقل”.

الإنسان في الحكمة العربية والفطرة الحنيفية

كان الحديث أول المقال يتحدث عن نظرة اليونان للعقل كخاصية جوهرية في الانسان، وذات قائمه به، وهي حقيقة وجوده وما زاد عنها وهم وخيال ويمكن تغيره وإعادة صنعه وتشكيله، وبينا كيف أدت هذه النظرة عند من ورثها عنهم إلى لوازم ومذاهب تستقبحها فطرة الانسان السوي، من لواطية وبيدوفيليا وغيرها من مظاهر الانحطاط…

وعلة هذا هو محاولة القدماء ”أنسنة الإله“ بقياس الشمول والتمثيل العقلي، إيمان منهم أن العقل جزء من العقل المتشرك الإلهي فهو قادر على إدراك حقائق الموجودات، وهذا أصل الكفر والوثنية والشرك، فيضعون النظريات ويجعلونها عامة مطردة في الوجود، فأدخلوا الإله في قياس التمثيل والشمول وقاسوا صفاته على صفات الانسان وحقيقته… فإستوى الانسان والإله في عقلهم، فكان لازم هذا أن ينقلب الأمر في ما بعد الحداثة من ” أنسنة الإله“ إلى ”تأليه الإنسان“، فأصبح هو المشرع الذي يضع ”log“ القوانين، ويحكم العالم على ما أراه هواه.

وحقيقة الأمر أنهم تجاهلوا « وحدة الإنسان في تكامل أوصافه وتداخل أفعاله.»34 فقولهم بجوهرية العقل وموضوعيته، وأنه متربع في السماء فوق الأهواء والشهوات والميول اللاواعية او العواطف والمشاعر هذا التصور الذي جذوره تمتد الى قدماء اليونان كما سبق البيان، فتجد من تأثر من ذوي جلدتنا بقولهم يستشنع أسلوب القرآن الكريم في الترغيب والترهيب، ولا يعلم أن الانسان فيه نزعات وأهواء ومشاعر ولذلك فالتفكير العقلي «متجسد ( قائم في الجسد) وغالبا تخيلي ومجازي»35 ولهذا إعتنى القرآن بالقصص وضرب الأمثال وبالترهيب تارة والترغيب أخرى، فهذا أليق بطبيعة الإنسان وفطرته من التبن الجاف الذي أكله أتباع أرسطو.

لهذا لم يكن العقل عند المسلمين جوهرًا قائمًا بذاته، يحدد ماهية الانسان وحقيقة وجوده. يقول شيخ الإسلام إبن تيمية -رحمه الله- «اسم العقل عند المسلمين وجمهور العقلاء انما هو صفة »36 ويقول ايضا: «والعقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا وهو أيضا غريزة في الإنسان فمسماه من باب الأعراض لا من باب الجواهر القائمة بأنفسها وعند المتفلسفة مسماه من النوع الثاني.»37

فالعقل ”صفة“ و ”عرض“ وهو تابع للجسد وليس مستقل عنه او حاكم فيه، فهو مجرد فعل ووظيفة تقوم بها أداة جسدية وهي القلب او الدماغ، لقول الامام البخاري: «المعرفة فعل القلب لقول الله تعالى : {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}»38 اي ان العقل بنسبة للقلب «بمنزلة قوة البصر التي في العين».39 «وقد خلق القلب لأن يُعَلَمَ به، فتوجهه نحو الأشياء إبتغاء العلم بها هو الفكر والنظر، كما إقبال الأذن على الكلام إبتغاء سمعه هو إلاصغاء والاستماع، وانصراف الطرف الى الاشياء طلبًا لرؤيتها هو النظر.»40 ويقول ابن تيمية أيضا « مبدأ الفكر والنظر في الدماغ»41

فالمسلمين – ليس كما اليونان والغرب ومن تابعهم- عندهم العقل ليس ذاتا او جوهرا تتحدد به الهوية او تقوم به الافعال والصفات، وانما هو فعل وصفة غير منفصل عن باقي صفات الجسم الانساني من بصر وسمع وغير ذلك.

لهذا رد ابن تيمية على الفلاسفة -مقلدة اليونان- قائلا إن «العقل عندهم هو المجرد عن المادة وعلائق المادة، والمادة عندهم هي الجسم»42 ثم يقول « وما يذكرونه من دليل على إثبات جواهر عقلية انما يدل على ثبوتها في الاذهان لا في الاعيان»43

«فالعقل إذا ليس فقط عملية إنشاء وإصدار تصورات وأحكام منطقية على النمط الأرسطي، وإنما هو نشاط يلاحظ المنافع والمضار، ويقدر المصالح، ويعتبر الأخلاق والحسن والقبح، وكل هذا من لوازم كونه قائما بالإنسان. ليس هذا فحسب، بل إن صلة العقل بالجسد ككل صلة وطيدة، فإن العقل – في حدود طاقته – يلتمس حاجات الإنسان كلها: بيولوجية وفسيولوجية ونفسية، ويتصل بها ويتفاعل معها بلا انقطاع. فصلة العقل بسائر الجسد غير متصورة مع تصور العقل على أنه جوهر بائن مستقل بذاته، وإنما تتصور مع تصور العقل على أنه امتداد للنفس وجزء منها وفرع عنها.»44
وهذا يعني ان تعريف الانسان بأنه ”حيوان عاقل“ لا يتوافق مع لغة المسلمين، وانما هو ناتج عن لغة القوم كما سبق البيان في الجزء الاول.

وهذا يدفعنا لنسأل : ما هو الإنسان في العربية والإسلام؟

الانسان ”المفتقر للأنس“

الإنسان في اللغة العربية له دلالة مختلفة، إذ الانسان من الاصل ” ا ن س” ؛ ومن هذا الاصل تتفرع عدة معاني، فالْأَنَسُ ضِدُّ الْوَحْشَةِ، وهي بمعنى الألفة والمحبة والمواساة وسكن القلب، فسمي إنساً لاُنسه؛ لأنه يأنس بنوعه، ويأنس بغيره، ويأنس به غيره.

لهذا فسر إبن كثير قوله تعالى -بعد بسم الله الرحمن الرحيم-:

{ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}

«يقول تعالى آمرا خلقه بتقواه ، وهي عبادته وحده لا شريك له ، ومنبها لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة ، وهي آدم ، عليه السلام ( وخلق منها زوجها ) وهي حواء ، عليها السلام ، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم ، فاستيقظ فرآها فأعجبته ، فأنس إليها وأنست إليه»45

ويقول الزمخشري: «ولبس المؤنسات أي الأسلحة لأنهنّ يؤنسنه ويطامن قلبه.»46 وهكذا فخاصية للإنسان هي “حاجته للأُنس”. ويكون بذلك تعريف الانسان : حي مفتقر لمن/ لما يؤنسه.

إننا الان بصدد صك مفهوم فلسفي جديد للإنسان و كثيف الدلالة، يقلب الفلسفة رأسًا على عقب. وهذا التعريف الذي صُغته، لا يتعارض مع تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الإنسان: حساس متحرك بالإرادة.47

لأن من المعاني المتفرعة عن أصل ”أن س“، معنى ”الإحساس“ إذ تقول العرب ” آنَسْتُ: إذا أحْسَسْت شَيْئاً.“ ومنه قول الله عز وجل عن موسى عليه السلام {إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} اي ابصرت كما قال البغوي ونقلها القرطبي عن ابن عباس وغيره.

وفِي حَدِيثِ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ «فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا» أَيْ أبْصَرَ ورَأى شَيْئًا لَمْ يَعْهَده.
وجاء في مختار الصحاح للرازي « وَآنَسَ الصَّوْتَ أَيْضًا سَمِعَهُ»

ومنه الْحَدِيثُ:

أَلَمْ تَر الْجِنّ وإبْلاَسَها، ويأسَها مِنْ بَعْدِ إِينَاسِهَا» أَيْ أَنَّهَا يَئِسَتْ مِمَّا كَانَتْ تَعْرِفُهُ وتُدركه مِنِ اسْتِراق السَّمع ببعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فالأنس مرتبط بالإحساس، والانسان يحس بالضر/ الألم و بالنفع/ اللذة، يريد الانسان ما يوافق نفعه ومصلحته ويتحرك نحوه، او يتحرك بإرادته الى ما يدفع عنه الضر والألم. ومن هنا دبج إبن تيمية تعريفه بأن الإنسان «حساس متحرك بالإرادة» وقولنا: الإنسان مفتقر لمن/ لما يؤنسه، لا يخالف هذا؛ فالمفتقر للأنس يريد ثم يسعى لما يؤنسه، وما يؤنسه هو ما فيه نفعه ومصلحته.

إن هذه الحاجة فطرية ومتجذرة في النفس الإنسانية، لهذا خلق الله عز وجل رحمة بهذا المخلوق من يؤنسه ليحقق إنسانيته من خلال الاخر. فخلق له زوجه { لتسكنوا } وخلق له البنون { زينة الحياة الدنيا} ، وربطه بالمجتمع {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}

رتب هذه العلاقات بالشرائع حتى نحافظ على المواساة بيننا (هو ما ينفعنا)، ولا يكون ظلم أو جور (وهو ما يضرنا)، فشرع الزواج والميراث وأوصى بمواساة اليتامى والمساكين، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}

وقد قيل إن الإنسان من النسيان، فسمي ناسًا لأنه نسى، وروي ذلك عن ابن عباس ومثله عن سَعِيد بن جُبَير أنَّه قال: إنما سُمَّى الِإنسانُ إنسانًا، لأَنّه نَسِى، يعني قَولَه تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ}.

ومثله قول الشاعر :

نَسِيتُ وعْدَك والنِّسْيانُ مُغتَفرٌ
فاغْفِر فأَوَّلُ ناسٍ أَوَّلُ الناسِ

وفعلا النسيان صفة ملازمة للإنسان في القرآن في غير موضع. فلقد عاهد الله الانسان على توحيده وعبادته، فلما اتوا إلى الحياة الدنيا نسوا ذاك فأرسل للناس المرسلين مذكرين بالعهد. وهذا لا يتنافى مع ما قررناه؛ اذ من ينسى شيئًا سيجد في نفسه حاجة إلى تذكره ولا تأنس نفسه ولا تطمئن او تسكن، حتى يتذكر ما نسى. ومن هنا كان التوحيد موافقًا للفطرة.

ومن اعرض عن الذكر له معيشة ضنكا، يبقى في تيه واغتراب وحسرة، لا يعرف حقيقة وجوده ولا غايته، فيكون ظلوما جهولا.

فطرة التوحيد والأنس بالله

والأنس ضد التأبد، والتأبد هو التوحش، ويقال –في معجم لسان العرب- «أَبَدَت البهيمةُ تأْبُد وتأْبِدُ أَي تَوَحَّشَتْ. وأَبَدَت الْوَحْشَ تأْبُد وتأْبِدُ أُبوداً وتأْبَّدت تأَبُّداً: تَوَحَّشَتْ. والتأَبُّد: التَّوَحُّشُ. وأَبِدَ الرجلُ، بِالْكَسْرِ: تَوَحَّشَ… وتأَبد الْمَنْزِلَ أَي أَقفر وأَلفته الْوُحُوشُ… جاءَ بِآبِدَةٍ أَي بأَمر عَظِيمٍ يُنْفَرُ مِنْهُ ويُستوحش. وتأَبَّدت الدَّارُ: خَلَتْ مِنْ أَهلها وَصَارَ فِيهَا الْوَحْشُ تَرْعَاهُ”.» ، فالفرد عندما يغادر الجماعة الإنسانية وينفرد في الطبيعة، يسمى متأبدًا أي متوحشا، لهذا نعبر نحن العرب بالبعد عن الوطن او عن الاحباب الذين يؤنسوننا، نعبر عن هذا الإغتراب ب” الوحشة”.

يقول رضا زيدان : «فالمادة (أ ب د) تدور حول معنى التخليد أو الزمن الطويل، معنى التوحش. فما هو الرابط بين المعنيين؟

إن التوحش هو الخروج عن الحالة الطبيعية للكائن أو البيئة، فعلى مستوى الكائن فإن الحالة الطبيعية للإنسان هي وجوده في مجتمعه وقبيلته، كما أن الحالة الطبيعية للحيوان بعامة هي وجوده في قطيعِه، فـالعزلة هي حالة توحش للكائن، وعلى المستوى البيئي فإن الحالة الطبيعية للمكان هو وجود أهله، وبغيابهم يتوحش، فاندثار علامات الديار هو حالة توحش لهذه الديار، وهذا واضح في موضوع رئيسي من موضوعات الشعر الجاهلي: الوقوف على الأطلال. ما هي الكلمة العربية التي تعبر عن الحالة الطبيعية للإنسان تحديدًا؟ إنها كلمة ”تأنّس“. هنا نلاحظ مباشرة التقابل بين ما هو إنساني اجتماعي (تأنّس) وما هو برّي منعزل (تأبّد).» 48

إن الطبيعة في المنظور العربي تمثل الديمومة والأبدية، اذ الأنس فاني وما ينتج عنه أيضًا زائل، من قبائل وحضارات ودول، فالأنيس لا يدوم، وفي هذا يقول الشاعر طرماح :

 كل مستأنس إلى الموت قد خاض إليه بالسيف كل مخاض

واذا خلى المكان من الانسان عادت الطبيعة الى مجراها، وأصبحت البيوت موحشة. وفيه قول جرير :

حي الهدملة من ذات المواعيس 
فالحنو أصبح قفراً غير مأنوس

الجبال الشامخة والبحور الواسعة والصحراء القاحلة كلها دائمة، وما يصنعه الانسان فيها زائل، وهذه الدلالة موجودة في الشعر الجاهلي بكثرة وافرة حتى أصبحت ظاهرة في الشعر سميت بالوقوف على الاطلال،

وفيها قول لبيد بن ربيعة :

عَفَتِ الدِّيارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا
بمنًى تأبَّدَ غَوْلُها فَرِجَامُهَا

فقد خربت الطبيعة الديار، وأصبحت موحشة ( متأبدة). وهكذا ارتبط التوحش بالتأبد بالطبيعة. ولقد اتى الاسلام ليقلب هذا التصور الأنطولوجي العربي، فالأبدية لله لا للطبيعة، يقول تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً ۝ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ۝ لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً}

أي: لا ترى في الأرض يومئذ وادياً ولا رابية، ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً، كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة وغير واحد من السلف.

فمن يريد ان ينعزل البشر، سيتوجه الى الحي الذي لا يموت لا الى الطبيعة الفانية، وهكذا سينلقب التأبد الى التعبد، وتنقلب الوحشة الى أنس بالله عز وجل!

ومن خلال الانس بالله، اي توحيده وعبادته بالحق، تتحقق الإنسانية الحقة. فمن أعرض عن ذلك فهو ليس إنسانًا وانما كالأنعام بل أضل سبيلا. فالأنس بالله حاجة فطرية متجذرة في الإنسان سخر الله لإشباعها بأن جعل توحيده فطرة، وارسل الانبياء والرسل وانزل الكتب حتى يهتدي الانسان لما خلق له. { وما خلقت الانس والجن الا ليعبدون} قال السلف: ليوحدون.

فطرة حنيفية وثورة فلسفية

ومما سبق ذكره تبين لنا، أن الانسان مفتقر في ذاته لما يؤنسه، مما ينفعه ويلتذ به من علم واكل وشرب ومنكح وملبس وإفتقاره هذا يدله على حاجته الأعظم؛ حاجته للإله، فأعلى المقامات أنسه بالله والذل له، والإقرار بالإفتقار له، وشكره على نعمه التي تؤنسنا في الحياة الدنيا وأهمها نعمة التوحيد.

فنظر كيف المآل الذي آل له هذا التفلسف العربي الإسلامي الأصيل، في صياغته مفهوم للإنسان ينتهي عند الإتساق الى الإنسان-العبد الموحد لله الذاكر له، لا الإنسان-الإله الذي نسى ربه كما في النسق الغربي.

فقلب الإنسان الذي هو مبدأ الإرادة ومنتهى الإدراك، خلق للإقبال على الحق، هذا الحق الذي يحصله بالحس عن طريق «توجهه نحو الأشياء إبتغاء العلم بها»49 ثم يُعمل النظر وتنتظم الأدلة في النفس، ويتفق إفتقاره مع علمه الحق فيأنس به. فالفطرة تقتضي الإسلام كما تقتضي الأكل والشرب وغير ذلك، فمتى توفر الداعي استجابت له.

«فعلم أن الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها، والحب لله والخضوع له والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية، وذلك مسلتزم للإقرار والمعرفة، ولازم اللازم لازم، وملزوم الملزوم ملزوم، فعلم أن الفطرة ملزومة لهذه الأحوال، هذه الأحوال لازمة لها، وهو المطلوب. »50

ابن تيمية

فالقلب « مقبلا على الحق والعلم والذكر ومعرضا عن غير ذلك، وتلك هي الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام.
فإن الحَنَفَ هو: الميل عن الشيء بالاقبال على الآخر. فالدين الحنيف هو الإقبال على الله وحده، والإعراض عما سواه. وهو الإخلاص الذي ترجمته كلمة الحق. والكلمة الطيبة : لا إله إلا الله.»51

والله عز وجل من رحمته، انزل في الوحي ذكر صفاته وجعل في الفطرة مقتضى الإقرار بها، ولهذا قال من قال أن «الله سبحانه وتعالى نصب أعلامًا تأنس بها النفوس، وتطمئن إليها، كالكعبة وسماها بيته، والعرش وذكر استواءه عليه، وذكر عن صفاته اليد، والسمع، والبصر، والعين، وينزل إلى السماء الدنيا، ويضحك، وكل هذا لتأنس النفوس بالعادات»52 ونقل عن ابن عقيل ان الناس يأنسون بإثبات صفات الله تعالى، وأنهم بذلك يطمعون ويخافون شيئًا قد أنسوا إلى ما يخاف مثله ويرجى، وأما نفاة الصفات فلا طمع ولا مخافة، وهذا مشاهد معلوم عند أهل التعطيل الذين شبهوا الإله بالعدم، وعند الإتساق ينكرون وجوده كما حدث في الغرب؛ فيأله الإنسان نفسه. 53

فمفهوم الإنسان المفتقر في ذاته، المحتاج لما يؤنسه في وجوده، متسق مع عقيدة التوحيد، واثبات صفات الله، ويكون متخلقًا بالفطرة بناءً على كونه حساس يحس بالضر والنفع، ويزداد تخلقًا بالوحي عند سماعه عن الوعد والوعيد، والترهيب والترغيب. كما يحتاج لمن حوله يؤنسونه في دنياه من والديه وزوجه وبنوه وغيرهم.

في حين مفهوم الانسان العاقل، متسق مع عقيدة الشرك كما سبق البيان، ومع نفي صفات الله ودفع التجريد الى منتهاه، وهو عبادة العدم، فينقلب الانسان على عقبيه، فيحسب نفسه إله، ويحدد الأخلاق من ذاته لا ينظر الى العواقب ولا الدوافع ولا الى الإمكان في الواقع، فيبالغ في تقدير ذاته وهذا منشأ الفردانية، فتنفك العلاقات بين الانسان ومن يؤنسه من ذويه، ثم الإغتراب والعدمية فيفقد أهم ما يحتاجه وهو الأنس فيعيش في شقاء ووحشة لا يعرف المعنى من وجوده.

فقد نسي الله ولم يأنس به فلم يعد يجد ما يؤنسه البتة.

{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ}

سورة طه 124

  1. الفلسفة في العصر التراجيدي عند الاغريق ويليه مستقبل مؤسستنا التعليمية، فريدريك نيتشه، ترجمة محمد الناجي، أفريقيا الشرق-المغرب، ص 24 ↩︎
  2. Fragments, Heraclite, traduction, introdution, notes et bibliographie par Jean-François Pradeau, GF Flammarion. P 148 ↩︎
  3. قصيدة براميند ضمن: مدخل الى الميتافيزيقا، ا.د. امام عبد الفتاح امام،نهضة مصر للطباعة والنشر، ط1، ص 96 ↩︎
  4. نفس المصدر رقم: 2 ↩︎
  5. تاسوعات أفلوطين، نقله إلى العربية عن الأصل اليوناني: فريد جبر، مراجعة: جيرار جهامي، سميح دغيم، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولى، ج1، ص59 ↩︎
  6. الفلسفة في العصر التراجيدي عند الاغريق ويليه مستقبل مؤسستنا التعليمية، فريدريك نيتشه، ترجمة محمد الناجي، أفريقيا الشرق-المغرب، ص 26 ↩︎
  7. معجم الفلاسفة، جروح طرابشي، ص 314 ↩︎
  8. الرسالة القشيرية، للإمام ابو القاسم القشيري، النيسابوري الشافعي المتوفى سنة ٤٦٥ هجرية، تحقيق العارف بالله الامام عبد الحليم محمود، والدكتور محمود بن الشريف، مطابع مؤسسة دار الشعب- للصحافة والطباعة والنشر، ص 512 ↩︎
  9. الحدود لجابر بن حيان، ضمن كتاب: المصطلح الفلسفي عند العرب، عبد الامير الاعسم، ص 171. ↩︎
  10. رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، القسم الرياضي، مركز النشر: مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى،ج1، ص290 ↩︎
  11. رسائل الكندي الفلسفية، حققها وأخرجها مع مقدمة تحليلية لكل منها وتصدير واف عن الكندي وفلسفته: محمد أبو ريدة، مطبعة الاعتماد بمصر ١٣٦٩ه‍، ج١، ص٢٧٤ ↩︎
  12. افلوطين عند العرب- نصوص حققها وقدم لها عبد الرحمن بدوي، دراسات اسلامية -20-، مكتبة النهضة المصرية، ص 21 ↩︎
  13. الرسالة القشيرية، ص 18 ↩︎
  14. الرسالة القشيرية، ص 20 ↩︎
  15. نظرية الانسان الكامل عند المسلمين، تأليف: هانز هينريش شيدر، *ضمن الانسان الكامل في الاسلام، دراسات ونصوص غير منشورة، ألف بينها وترجمها وحققها: الدكتور عبد الرحمن بدوي، الطبعة الثانية، الناشر : وكالة المطبوعات. ص 68 ↩︎
  16. حلية الابدال، بن عربي، ص 9 ↩︎
  17. كتاب مراتب الوجود، ابو المعالي محمد بن إسحق بن محمد القونوي، المتوفي سنة ٦٧١ه‍، ضمن: الانسان الكامل في الاسلام، الدكتور عبد الرحمن بدوي، ص147 ↩︎
  18. المواقف الإلهية، ابن قضيب البان، ضمن: المصدر السابق، ص 189 ↩︎
  19. فصوص الحكم، محي الدين ابن العربي، شرح : الشيخ عبد الرزاق القاشاني، آفاق للنشر والتوزيع، ط1، ص 226 . ↩︎
  20. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، اعتنى بها وخرج احاديثها: عامر الجزار- انور الباز، الجزء الثاني، ص 65 . ↩︎
  21. المصدر السابق، ص66 . ↩︎
  22. مبادئ الفلسفة، رينيه ديكارت، ترجمة : د. نداء عادل، إبداع، الطبعة الاولى، سبتمبر 2019، ص 53. ↩︎
  23. المصدر السابق، ص 54. ↩︎
  24. مقال عن المنهج، رينيه ديكارت، ترجمة محمود الخضيرى، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، ص 69. ↩︎
  25. أسس ميتافيزيقا الأخلاق ضمن : مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة متبوع بأسس ميتافيزيقا الأخلاق، إيمانيول كانط، ترجمة : نازلي إسماعيل حسين و محمد فتحي الشنيطي، تقديم : عمر مهيبل، موفم للنشر، ص 281. ↩︎
  26. المصدر نفسه، ص 288 ↩︎
  27. المصدر نفسه، ص 291 ↩︎
  28. نقد العقل المحض، كانط، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، ص 274 ↩︎
  29. أسس ميتافيزيقا الأخلاق، السابق، ص321 ↩︎
  30. موسوعة الفلسفة، الدكتور عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1984، الجزء الثاني، ص 627 ↩︎
  31. الانسان المؤله أو معنى الحياة، لوك فيري، ترجمة : محمد هشام، أفريقيا الشرق، ص 44 ↩︎
  32. جينالوجيا الأخلاق، فريدريك نيتشه، ترجمة وتقديم: محمد الناجي، أفريقيا الشرق، ص 83 ↩︎
  33. الانسان المؤله أو معنى الحياة، لوك فيري، ترجمة : محمد هشام، أفريقيا الشرق، ص 44 ↩︎
  34. العمل الديني وتجديد العقل، د.طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 1997، ص 18 ↩︎
  35. بواسطة : عبد الله بن سعيد الشهري، ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والايمان، مركز نماء للبحوث والدراسات، ص 116. Lakoff G. & Johnson, M. (1999) Philosophile in the flesh. P. 400-401. ↩︎
  36. رسالة في العقل والروح، ابن تيمية، بعناية طارق سعود، دار الهجرة، الطبعة الثانية،ص32. ↩︎
  37. الرد على المنطقيين، ابن تيمية، ص 196. ↩︎
  38. صحيح البخاري، كتاب الايمان، الباب 13. ↩︎
  39. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج 3 ص 338. ↩︎
  40. رسالة في القلب وأنه خلق ليعلم به الحق ويستعمل فيما خلق له، تأليف شيخ الإسلام إبن تيمية ↩︎
  41. رسالة في العقل والروح، ابن تيمية، ص 54 ↩︎
  42. المصدر السابق، ص11 ↩︎
  43. المصدر السابق ، ص 16. ↩︎
  44. ثلاث رسائل، عبد الله بن سعيد الشهري، ص 11 ↩︎
  45. تفسير ابن كثير،جزء 2، ص206 ↩︎
  46. أساس البلاغة، أبو القاسم الزمخشري، مادة ” ا ن س “. ↩︎
  47. درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، ج8 ↩︎
  48. مقال: هل أخطأ أمية بن أبي الصلت في قوله: «… ربُّ الأنامِ وربُّ من يتأبّد»؟ – رضا زيدان، منصة معنى الثقافية. ↩︎
  49. رسالة في القلب وأنه خلق ليعلم به الحق ويستعمل فيما خلق له، تأليف شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله، حقق نصها وضبطه وخرج أحاديثها: سليم بن عيد الهلالي، دار إبن الجوزي،ص 16. ↩︎
  50. درء تعارض العقل والنقل، شيخ الاسلام ابن تيمية، ج8، ص 451 ↩︎
  51. رسالة في القلب وأنه خلق ليعلم به الحق ويستعمل فيما خلق له، تأليف شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله،ص 30. ↩︎
  52. صيد الخاطر، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (ت ٥٩٧هـ)، بعناية: حسن المساحي سويدان، دار القلم – دمشق، الطبعة: الأول،١٤٢٥هـ – ٢٠٠٤م، ص 284. ↩︎
  53. المصدر السابق، ص 199 ↩︎

مقالات مشابهة