هل كان مذهب أبي حنيفة مضطربًا مثله؟

محمد عثمان

تكثر الخطابات العاطفية والصفحات الأنشائية في الوسط الحالي في ما يخص المواضيع العلمية وخصوصا موضوع إمام أهل الرأي ولا تكاد تجد نقد أو رد على أصل المسألة إلا أن بعض الإطلاقات التي لا يتم إعارتها اهتمام هي ما يتعلق بالمذهب الذي تشكل بعده ويعامل كأنه سليم أو أن الحديث فيه اختفى وتُقبل ولو سلم ما قيل في عين الشخص فالمذهب لا دخل له، وهذا طرح مثالي حالم فمن سلم أن المذهب بعيدا عن رأسه سليم؟

لم يرض الغالبية، لا المالكية ولا الشافعية ولا الحنابلة بتأصيلات الأحناف التي تقتضي تقديم القياس على الحديث. والسلف كان علامة ذمهم لهم أنهم أهل رأي وابن تيمية ذمهم بكثرة ردهم للنصوص بأنها منسوخة وله كلام في جامع المسائل أنهم يدفعون النصوص ببعض ويقولن منسوخة وله كلام آخر في أنهم يكثرون الاحتجاج بالنسخ بلا دليل على وقوعه. وتأكيدا لكلام ابن تيمية قول الكرخي في الاصول:

“إنّ كلّ آية تخالف قول أصحابنا فإنّها تُحمل على النسخ أو على الترجيح والأولى أن تُحمل على التأويل من جهة التوفيق”. وقال: “إنّ كلّ خبر يجيء بخلاف قول أصحابنا فإنّه يُحمل على النّسخ، أو على أنّه معارض بمثله ثمّ صار إلى دليل آخر، أو ترجيح فيه بما يحتج به أصحابنا من وجوه الترجيح، أو يُحمل على التوفيق، وإنّما يُفعل ذلك على حسب قيام الدليل فإن قامت دلالة النسخ يُحمل عليه، وإن قامت الدِلالة على غيره صرنا إليه”.1

الكرخي

وحملها على النسخ ما لم يمكنه ذلك بعد التبين، وقد حاول البزدوي تبيينها بأنهم لا يقصدون تزوير النسخ ولكنه أثبت أن انتفائه مفضي إلى محاولة التأويل عندهم.

أما كلام صاحب المذهب:يقول مكي بن أبي طالب المالكي في تفسيره الهداية إلى بلوغ النهاية: قال:

وقد حكم بالضمان لما أفسدت البهائم بالليل ثلاثة من الأنبياء: داود وسليمان ومحمد. قضى النبي أن على أهل الثمار حفظها بالنهار، وضمن أصحاب الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل.

وقال أبو حنيفة: لا ضمان.

وخالف أبو حنيفة هذا الحكم، وزعم أنه منسوخ بقول النبيﷺ: “العجماء جبار” والرواية عند أهل الحديث: العجماء جرحها جبار. وقد أجمع أن على راكب الدابة ما أصابت بيديها، فدل ذلك أن ما أصابت جبار إذا لم يكن صاحبها معها أو قائدها. فخالف أبو حنيفة، في هذا داود وسليمان ومحمداً وجميع العلماء.”.2

فتأمل هذا الأصل الفاسد القائم على تقديم قياسهم على النص وهل فرق عن من قدم قياسه في الإلهيات على النص؟

يقول حرب الكرماني:

وأصحاب الرأي وهم مبتدعة ضلال، أعداء السنة والأثر، يرون الدين رأيا وقياسا واستحسانا. وهم يخالفون الآثار، ويبطلون الحديث، ويردون على الرسول ﷺ، ويتخذون أبا حنيفة ومن قال بقوله إماما يدينون بدينهم، ويقولون بقولهم. -السنة من مسائل حرب. فيبدو أن ما قدمت به هو ما قصده.

السنة من مسائل حرب3

قال ابن قتيبة:

“ولم أر أحدا ألهج بذكر أصحاب الرأي وتنقصهم والبعث على قبيح أقاويلهم، والتنبيه عليها، من إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه.” وهذا شيخ حرب بن إسماعيل، ثم ذكر عن إسحاق: “وسئل -أبا حنيفة- عن الشرب في الإناء المفضض. فقال: لا بأس به، إنما هو بمنزلة الخاتم في إصبعك، فتدخل يدك الماء، فتشربه”.

تأويل مختلف الحديث4

وهذا من صور تقديم القياس على الحديث الذي هو متسق مع أصلهم. قال ﷺ: “الذي يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم.”

فيبدو بالثابت أن الإمام والمذهب الذي تشكل بعده مطردان في هذا فتبين فساده من جهتين. ونقل عن الشعبي:

“إياكم والقياس، فإنكم إن أخذتم به، حرمتم الحلال، وأحللتم الحرام.”

الشعبي5

ولكنا نرى أن ما أحدثه بعض الأحناف لا ينسب لرأسهم وما نقل عنه لا يجرأ عليه الاتباع وليس كل ما نسب له يلزمهم ولا كل ما ثبت عنهم يلزمه إلا أنه يعود عليه بالأصل فمسالة الاستحسان خلافا للنص مطردة مع الابتداع لا معاكسة له إذ أن قياس الناس يتفاوت ولكن الذي فتح بابه ملام.

ثم يجب أن يساق تقرير ابن تيمية لما قدمت من قبلي لأن القوم يعولون عليه في كل شي:

يقول ابن تيمية في الاستقامة:

“وقد قررنا في القواعد في قاعدة السنة والبدعة أن البدعة هي الدين الذي لم يأمر الله به ورسوله فمن دان دينا لم يأمر الله ورسوله به فهو مبتدع بذلك وهذا معنى قوله تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله.”

إذن هذا باب التشريع مع الله، يقول: “وأين هذا من أهل الكلام الذين يقولون إن الكتاب والسنة لا يدلان على أصول الدين بحال وأن أصول الدين تستفاد بقياس العقل المعلوم من غيرهما وكذلك الأمور العملية التي يتكلم فيها الفقهاء فإن من الناس من يقول إن القياس يحتاج إليه في معظم الشريعة لقلة النصوص الدالة على الأحكام الشرعية كما يقول ذلك أبو المعالى وأمثاله من الفقهاء مع انتسابهم إلى مذهب الشافعي ونحوه من فقهاء الحديث فكيف بمن كان من أهل رأى الكوفة ونحوهم”.

أهل رأي الكوفة هم الأحناف ويكمل: “فإنه عندهم لا يثبت من الفقه بالنصوص إلا أقل من ذلك وإنما العمدة على الرأى والقياس”.

ثم يشرع بضرب مثال براس المذهب الحقيقي: “وإنما ظن كثير من الناس الحاجة إلى الرأى المحدث لأنهم يجدون مسائل كثيرة وفروعا عظيمة لا يمكنهم إدخالها تحت النصوص كما يوجد في فروع من ولد الفروع من فقهاء الكوفة ومن أخذ عنه”. ويقول عن فروعه التي اشتقها: “تلك الفروع والمسائل مبنية على أصول فاسدة فمن عرف السنة بين حكم ذلك الأصل فسقطت تلك الفروع المولدة كلها وهذا كما فرعه صاحب الجامع الكبير فإن غالب فروعه كما بلغنا عن الإمام المقدسي أنه كان يقول مثله مثل من بنى دارا حسنة على أساس مغصوب فلما جاء صاحب الأساس ونازعها انهدمت الدار.”.6

وصاحب الجامع الكبير هو محمد بن حسن الشيباني صاحب أبي حنيفة والمنظر للمذهب. يكمل: “وكذلك ما فرعوه في باب الحكم والسياسة وغيرها عامة ذلك مبنى على أصول فاسدة مخالفة للشريعة وهذا والله أعلم من معنى قول ابن مسعود إنكم ستحدثون ويحدث لكم”. ولكن ابن تيمية لا يلقي كامل اللوم على الشيباني بل يعيد ذلك للأصل الذي دشنه إمام أهل الرأي، قال في المجموع:

“وأما بعض التجهم فاختلف النقل عنه ولذلك اختلف أصحابه المنتسبون إليه ما بين سنية وجهمية؛ ذكور وإناث؛ مشبهة ومجسمة؛ لأن أصوله لا تنفي البدع وإن لم تثبتها.”

المجموع7

يعني أن الأصل مطرد مع هذه البدع على كل حال بغض النظر ما عما ثبت في العقائد.

وقال المعلمي تأكيدا على هذا الاطراد في قول سفيان والأوزاعي “أشأم مولود”:

“كان الثوري والأوزاعي كجمهور الأئمة قبلها وفي عصرهما يريان الإرجاء ورد السنة بالرأي والقول ببعض مقالات الجهمية كل ذلك ضلالة من شأنها أن يشتد ضررها على الأمة في دينها ودنياها ورأيا صاحبكم وأتباعه مخطئين أو مصيبين جادين في نشر ذلك ولا تزال مقالاتهم تنتشر وتجر إلى ما هو شر منها حتى جرت قوما إلى القول بأن أخبار الآحاد مردودة مطلقا وآخرين إلى رد الأخبار مطلقا كما ذكره الشافعي ثم جرت إلى القول بأن النصوص الشرعية لا يحتج بها في العقائد! ثم إلى نسبة الكذب إلى أنبياء الله عز وجل وإليه سبحانه كما شرحته في قسم الاعتقاديات.”.

التنكيل8

توقف الكلام فيه لا عن تلقي بل إجبار

قال السخاوي:

“وأما ما أسنده الحافظ أبو الشيخ ابن حيان في كتاب “السنة” له من الكلام في حق بعض الأئمة المقلدين، وكذا الحافظ أبو أحمد ابن عدي في “كامله” والحافظ أبو بكر الخطيب في “تاريخه” وآخرون ممن قبلهم، كـ: ابن أبي شيبة في “مصنفه” والبخاري والنسائي، مما كنت أنزههم عن إيراده، مع كونهم مجتهدين، ومقاصدهم جميلة، فينبغي تجنب اقتفائهم فيه.

ولذا عزر بعض القضاة الأعلام من شيوخنا من نسب إليه التحدث ببعضه، بل منعنا شيخنا حين سمعنا عليه كتاب “ذم الكلام” للهروي من الرواية عنه؛ لما فيه من ذلك”.

قال تقي الدين أبي الطيب:

“وبلغني أنه سئل -الذهبي- أن يجمع شيئا في حديث الإمام أبي حنيفة فترك الأمر وسهل الأمر في ذلك وعلله بقلة حديثه، فلم يسهل ذلك للحنفية فتركوه حتى خرج للجامع سحرا، فأوقفوه وعاتبوه وأوهموه أنهم يريدون ذبحه. فتلطف لهم وجمع صحيفة نظيفة في حديث أبي حنيفة”.

وعلى النقيض: ذكر القرتبي في عقود العقيان: ذكر أبو القاسم ابن عبد العليم اليماني الحنفي (القرن العاشر):

“أن “حساد” أبي حنيفة بالغوا في إعدام مناقبه وطمس آثارها فلم يكن في اليمن كلها كتاب واحد في مناقبه حتى أن كتاب الصيمري (أخبار أبي حنيفة وصاحبيه) كان مخفيا عند بعض “المتعصبة” على أبي حنيفة ولا يرضى أن يظهره.”

مخطوط غير مطبوع

قول ابن تيمية أن من أهل الحديث قد يخفى قولهم تحت التهديد في مسالة تعليق الطلاق:

“وإذا ظهر العمل بقول في بلد أو بلاد هاب مَنْ يهاب ذكر ما يخالف ذلك، لاسيما إذا اقترن بذلك غَرَضُ بعض الولاة وعقوبتهم لمن يخالفهم، حتى إنَّ البلاد التي تظهر فيها بدعة من البدع لا يمكن أهل الحديث أن يظهروا من الأحاديث ما يخالف تلك البدعة”.

تعليق الطلاق9

من آثار الفساد الاجتماعي لمذهبهم في زمننا:

جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: نقل ابن عابدين عن البزازي أنه لو زوجت المطلقة نفسها من الثاني بشرط أن يجامعها ويطلقها لتحل للأول قال الإمام النكاح والشرط جائزان حتى إذا أبى الثاني طلاقها أجبره القاضي على ذلك وحلت للأول.”.

وهذا التيس المستعار جاء في ابن ماجه والحاكم وغيرهما: عن النبي ﷺ قال: ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال هو المحل. ثم قال رسول الله ﷺ: لعن المحل والمحلل له. ولا يخفى ما شاع في مصر في الزمن الحالي من تحول للمذهب الشافعي لهذه العلة وعلة أخرى سنتطرق لها، فالإفتاء قد أجاز نكاح التحليل “بالحيلة” ذكرت الإفتاء المصرية أن “الزواج إذا كان بشرط التحليل فهو حرام شرعا باتفاق الفقهاء. أما إذا كان منويّا فقط من غير اشتراط في العقد أو عنده، كأن يتطوع شخص من نفسه وبدون اشتراط في العقد ويتزوج المطلقة ثلاثا ليطلقها بعد ذلك لتعود لزوجها الأول، فإنه جائز ويكون العقد بذلك صحيحا”.

لاحظ هو حرام ولكن يمكن الاحتيال عن طريق التطوع لا الطلب!.
هل يذكركم هذا بموضوع الحيل؟

والامر الثاني مسألة الزواج العرفي، فحسب ما يشيع الان هو ما يقصد به الزواج دون ولي وهو مذهب منسوب لامام اهل الراي نفسه: قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: “وقال أبو حنيفة: لها أن تزوج نفسها وغيرها، وتوكل في النكاح; لأن الله تعالى قال: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) أضاف النكاح إليهن، ونهى عن منعهن منه، ولأنه خالص حقها، وهي من أهل المباشرة، فصح منها، كبيع أمتها، ولأنها إذا ملكت بيع أمتها، وهو تصرف في رقبتها وسائر منافعها، ففي النكاح الذي هو عقد على بعض منافعها أولى.” ثم أجاب عن دليل الحنفية بقوله: “وأما الآية، فإنَّ عَضْلها الامتناعُ من تزويجها، وهذا يدل على أن نكاحها إلى الولي.”.

قال ﷺ كما في ابن ماجة والترمذي وغيرهم:

“لا نكاح إلا بولي”.

والردود على أصول المذهب وفروعه والمسائل المشتقة كثيرة جدا ولا تخبر عن تلقي ولا قبول مزعوم حتى ذكر عبدالله شرف الدين الداغستاني أن أبي الطيب الطبري كان يذكر الأم للشافعي بأسم الرد على محمد حسن الشيباني في القصاص والديات، وهذا ما يعني أن الأم رد على كتابه الحجة على أهل المدينة.

إن من يحاول نسبة المذهب للقبول والاستقرار أقرب إلى العامي من طالب العلم بل ما قارب التحقيق ولا كلف نفسه النظر، وبعد مجرد طي الأمر لن يحله ولن يجيب عن إشكالاته هب أنك أقنعت طلاب العلم بتقديم مصلحة ما بدل نقد الإشكال هذا وما تترتب عليه أصولهم من اطرادات كهذه، فكيف تردع العوام عن الأخذ بهذا وأنت تخبرهم أن المذهب معتبر بل هو مذهب لأفضل الائمة؟.

  1. -الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية ص: 169-170 ↩︎
  2. تفسير مكّي — مكي بن أبي طالب ↩︎
  3. كتاب إجماع السلف في الاعتقاد كما حكاه حرب الكرماني
    [حرب الكرماني] ص95 ↩︎
  4. تأويل مختلف الحديث – ابن قتيبة الدينوري – الصفحة ٥٣ ↩︎
  5. تأويل مختلف الحديث – ابن قتيبة – الصفحة ٥٧ ↩︎
  6. ابن تيمية في الاستقامة، عدة صفحات ↩︎
  7. مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20، ص185 ↩︎
  8. المعلمي اليماني، التنكيل بما في تأنيب الخطيب من الأباطيل، ص 452 ↩︎
  9. كتاب الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، ج1، ص297 ↩︎

مقالات مشابهة